top of page

بيتنا، زمكان وجداني

  • صورة الكاتب: عزيز بن ثاني | Aziz Thani
    عزيز بن ثاني | Aziz Thani
  • 26 أغسطس
  • 3 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: قبل 6 أيام

أشعر بتغيّر جذري في داخلي وكأن بنيتي النفسية تمرّ بإعادة تشكيل عميقة. لم أعد أنتمي تماماً لما كنت، ولا أملك صورة واضحة عمّا سأكون. هناك روابط قديمة تتفكك بصمت؛ أفكار ومشاعر وطباع مألوفة بدأت تفقد ثقلها من غير صخب. كل هذا يجري في مساحة داخلية انتقالية، لا أرض ثابتة ولا سماء نهائية. حالة من التفتت الخفي، لا على سبيل الضياع بل التخلّق.

النفس تستعدّ لولادة جديدة، تهمس بأن ما يحدث هو امتداد لتحوّلات عميقة ظلّت تتخمّر في الأعماق، وها هي الآن تطفو إلى السطح في تزامن غريب مع تغيّرات العالم من حولي، كأنهما يشتركان في خريطة واحدة من التحوّل، ترسمها قوة خفية على جدار الوجدان والواقع في آن واحد.


يقف شخص يشاهد منزل طفولته ينجرف نحو الثقب الأسود في سماء مضيئة وغامضة.

مؤخراً، انتقلت العائلة إلى بيت جديد، حينها لم أتعاطف كثيراً مع فكرة مغادرتهم البيت القديم. ظننت أنني انفصلت عنه منذ زواجي. لكن الحقيقة أن جزءً مني بقي هناك دون أن أدري، ولم أكتشف ذلك إلا حين رأيت الصور القاسية للبيت الذي احتضن طفولتي وقد تهدمت جدرانه وتبعثرت ملامحه. عندها فقط، استيقظت مشاعر كانت خامدة. كأن ركام الجدران حرّك ركاماً آخر في الوجدان، والنوافذ التي كنت أطلّ منها على الحي صارت فجوات مفتوحة على العدم، والجدران التي ضمّت ضحكاتنا صارت أنقاضاً صامتة. شعرت وكأن ما سقط من حجارة، سقط من ذاكرتي أيضاً، وترك في داخلي فراغاً أكبر مما تخيّلت.

البيت لم يكن مجرّد بناء، بل ساحة حياة؛ ضحكاتنا، شجاراتنا، أحضاننا، رؤيتي لأمي في المطبخ وهي تحضّر إيدام الرجلة الذي أحبّه، رائحة القهوة السودانية التي يعدّها أبي بعد كل غروب.. الكثير من التفاصيل التي كانت تشكل إيقاعاً مألوفاً يمنحنا الشعور بالاستقرار والانتماء.

ظلّ البيت متناغماً مع داخلي، رغم رحيلي عنه. وحين هُدم ومعه الحيّ بأكمله، تمزّق شيء في نسيج وجودي، وارتدّ صداه في الأعماق. هزّني من الجذور، ودفعني إلى إعادة النظر في كيفية تشكّل وجودنا وتداخله مع الزمان والمكان.

فإذا تخيّلنا أن الزمكان لا ينحني فقط للكتلة الفيزيائية، وإنما للكتلة الوجدانية أيضاً، فإن هذا الهدم وإن بدا خفيفاً بالنسبة للكون فقد كان أثره عميقاً في نسيج وعينا. كأن الذاكرة ذاتها تنحني وتتصدّع مع الجدران، لتذكّرنا بأن الإنسان لا يسكن الأمكنة فحسب، بل تتسرّب الأمكنة إلى داخله لتقيم فيه زمناً خاصاً بها.

فعندما جاءت الجرافة، لم تُحطِّم البيت فحسب، بل ضغطت تلك الكتلة الوجدانية لتتقلص إلى نقطة لا نهائية الكثافة، وتحوّلت بانهيارها إلى ثقب أسود في نسيج الزمان والمكان الخاص بنا. لا أعني الزمكان كوقائع فيزيائية، بل ما يمكن أن نسمّيه "الزمكان الوجداني"؛ ذلك الحيّز الداخلي الذي تلتف فيه مشاعرنا حول أماكن وأوقات أحببناها، لحظات اجتمع فيها المكان والزمان تحت كثافة الشعور. فالبيت لم يكن مجرد جدران وسقف، بل زمكان وجداني يحوي اللحظات الحميمة وذكريات الحنين. وعندما انهار، انضغطت تلك الكتلة الوجدانية إلى نقطة شديدة الكثافة، كولادة ثقب أسود اجتذب المدينة كلها. مزق النسق المألوف فاختلّ إيقاع وجودنا، وصرنا نترنّح بين الحنين والذهول، نبحث عن نسختنا المألوفة في هذا العالم الجديد.

وفي قلب ذلك الثقب الأسود، وفي أشد لحظات الظلام والعدم، انبعث النور. فبينما كانت الجدران تنهار في الخارج، كان عالم آخر يُبنى في الداخل. عالم لا تمسه الجرافات ولا يمحوه الزمان، حيث تعيد الذاكرة والأحلام تشكيل أركان البيت من جديد. نُرتب الغرف المهدومة ونصبغ المشاهد القديمة بألوان جديدة، وكأن العقل اللاواعي يُصر على أن البيت لم يمت بل انتقل إلى مكان آخر؛ إلى أرض الأحلام حيث لا تطاله الجرافات، ليظل موجوداً كحقيقة شعورية لا يمكن محوها.

وهكذا، لم يكن الانهيار نهاية، بل انفتاحاً على بداية جديدة، لإعادة اكتشاف نفسي؛ ليس بما فقدته، بل بما يمكن أن أصيره. فالبيت ليس مجرد جدران نعود إليها، بل كون وجداني يتجدد ويتسع بقدر اتساع قلوبنا، شعاع داخلي يُبدد وحشة الغربة. إنه بيت أبدي لا تحدّه الخرائط ولا تحكمه الجدران، بل يتشكل من نبضاتنا، ومن شرارة الحب التي تمنح الوجود معنى.


 قهوة تدعم الفكرة



1 تعليق واحد


ابو حسان الهوساوي
27 أغسطس

حقيقة يعجز البيان عن تسطير كلمات الشكر والثناء لقلمك السيال ومشاعرك الفياضة، لهذا المقال الجميل الذي اعاد لي الذكرى وعبر عن بعض الخلجات التي ظلت حبيسة الفؤاد.. أصارع لوعة الفراق تارة والحنين إلى الأطلال تارة.

إعجاب

انضم إلى سحابة نَبِلازِيز الآن

  • Instagram
  • TikTok
  • X
  • Snapchat
  • Youtube
bottom of page
*** 2025 © جميع الحقوق محفوظة ***