top of page
بحث

بين البكاء والسكون: رحلة التحول العميق في عالم الوالدين الجدد

  • صورة الكاتب: عزيز بن ثاني
    عزيز بن ثاني
  • 14 فبراير
  • 4 دقائق قراءة

تاريخ التحديث: 10 مارس

الآن وبعد مرور شهر على وصول روز إلى حياتنا،

 نجد أنفسنا غارقين في تجربة فريدة مليئة

بالمشاعر المتناقضة...


عزيز و أمل تمسكان بيد المولودة الجديدة روز، طفل محاطة بباقة ورود وردية. يظهر شريط مكتوب عليه "مرحبا، بيبي روز". الجو دافئ ومبهج.

في يوم 18 ديسمبر 2024، عندما حملتها بين ذراعي لأول مرة، شعرت وكأن حياتي بأكملها قد اختُزلت في محيّاها وعيناها حملتا كل ما يمكن أن يُقال عن الحياة. قلت في نفسي: ياااه، كم أنتِ جميلة. غمرتني المشاعر وأنا أتأمل جمالها، ولم أحتج في تلك اللحظة سوى أن ألامس بلطف يدها ووجهها، لأصدق أن هذا الحلم قد أصبح حقيقة.

كانت هادئة وصامتة، كأنها تراقب العالم من نافذتها الصغيرة. فقلت لمن حولي: إنها هادئة، ليست كباقي الأطفال. لكنني لم أدرك أن تلك اللحظة لم تكن سوى البداية. عمتي، بخبرة السنين، علقت بابتسامة: "لسه بدري، حتشوف"...

طفلة جديدة تعني بداية رحلة مليئة بالتناقضات العجيبة، تُجردك من أقنعة القوة واليقين، وتدفعك لمواجهة ضعفك وخوفك، بل وتُبرز فيك قوة خفية لم تكن تعلم بوجودها. وكأنها تأخذك في دوامة من التناقضات، حيث تجد نفسك عالقاً بين مشاعر متضاربة لا تخلو من التحديات والجمال في آنٍ واحد.

هناك لحظات يبدو فيها البكاء المتواصل وكأنه اختبار لصبرك، حيث تحاول جاهداً تهدئتها وفهم احتياجاتها الغامضة، بينما في داخلك صراع مستمر: هل أهرب إلى العزلة والهدوء الذي أفتقده، أم أواصل المحاولة؟

الهروب يبدو مغرياً؛ لكنه خيار لا يخلو من الخسائر، إذ تفقد تلك اللحظات النادرة التي تُنسج فيها روابط خفية وعميقة مع طفلتك وتتعلم الكثير عنها وعن نفسك.

أما البقاء والمواجهة، فهو أشبه بخوض مغامرة يومية تتأرجح بين الإرهاق والمتعة. تجد نفسك فجأة تتحول من شخص جاد إلى مهرّج؛ تصدر أصواتاً غريبة، تهمهم وتغني بلا لحن، وترقص بلا خجل وتتحرك بلا هدف.

ثم تأتي اللحظة الفاصلة، عندما تنجح في تهدئتها وتنام. هنا، تتحول إلى نينجا محترف وأنت تحاول وضعها في الفراش دون أن توقظها؛ خطواتك كأنها فوق سحابة، وحركاتك أكثر حذراً من لصوص المتاحف، تنسحب ببطء شديد وكأنك تفكك قنبلة موقوتة، وعندما تتم المهمة، تتنفس الصعداء وتتعانق مع شريكك وكأنكما أحرزتما كأس العالم. لكن فجأة، ومن دون أي تحذير، تسمع صوتاً خافتاً يشبه إنذار الطوارئ: لقد استيقظت، وتنظران إلى بعضكما بصدمة وإحباط، مع دعوات داخلية أن تنجح المحاولة القادمة.

ولكن بالطبع، هناك ليالٍ يستمر فيها البكاء بلا توقف، وتجد نفسك تواجه إحباطك وقلقك، متسائلاً: هل هي بخير؟ هل تعاني من ألم؟ هل يستدعي الأمر زيارة طبيب؟ ومع كل هذا القلق والمنغصات اليومية، تبدأ في الحنين إلى الماضي، إلى حياتك السابقة بما فيها من راحة ونوم وسهرات ليلية تقضيها في مشاهدة برامجك المفضلة، والتي أصبحت الآن رفاهية بعيدة المنال.

في كل مرة تعتقد أنك بلغت أقصى حدود قدرتك على التحمل، ولكن تتفاجئ بتجاوزها لتكتشف أنك إنسان يتخطى حدوده. فالحدود التي نفرضها على قدراتنا وإمكانياتنا ليست سوى أوهام ذهنية صنعناها بأنفسنا. الخوف الذي كان يوماً يقيد أحلامك وآمالك، يتحول إلى قوة تُلهمك لمواجهته بجرأة وإقدام. الإرهاق الذي يكاد ينهكك يتحول إلى شعور ينبض بالحياة المتجددة. حتى لحظات الإنهيار تصبح دروساً عميقة في الحب والعطاء.

وسط كل ذلك الزخم، تتجلى لحظات تحمل سحراً خاصاً، كأنها هبة سماوية. وجهها الملائكي يأسرك بهدوئه وينقلك إلى عالم من الدهشة والسكينة. تشعر أن تلك العيون الصغيرة تحمل حكمة أزلية، وأن تلك الابتسامة العابرة قادرة على محو كل همومك. قبضة صغيرة تحتضن إصبعك تمنحك إحساساً لا نهائياً بالوجود، ولحظة نومها الهادئ تعيد تعريف السلام بداخلك، وكأن تفاصيلها البسيطة تخفي أسرار الكون كله.

الأغرب أن هذه الطفلة، التي تبدو رمزاً للضعف والاعتماد، تعيدك إلى جوهر الإنسانية في أبسط صورها. فهي لا تكترث بما تفعله أو بما تخطط لفعله غداً، فجُّل ما تطلبه هو انتباهك ورعايتك وحبك اللامحدود. تجبرك على أن تعيش اللحظة معها بكل تفاصيلها، مهما كانت مرهقة. نظراتها الصامتة، وحتى بكاؤها الذي قد يبدو عبئاً، يتحولان إلى لغة بدائية تعيدك إلى جذورك الأولى، إلى تلك العلاقة البدائية بين الإنسان والحياة، وكأنك تدخل في حوار داخلي معها، بلغة غير مكتوبة ولا منطوقة، لغة وجدانية وسيطها المشاعر والتخاطر.

رحلة الأبوة والأمومة تبدأ بوهم السيطرة، معتقداً أنك ستشكل هذا الكائن الصغير، وتزرع فيه القيم وتعلمه مواجهة الحياة. لكن الحقيقة التي تُكشَف ببطء هي أن هذا الكائن الصغير سيعيد تشكيلك. التربية المتبادلة بينك وبينه هي درس في التواضع؛ ظنك بأنك المعلّم يتبدد، لتصبح طالباً في جامعة الحياة من جديد، فهذه الرحلة ليست مجرد تجربة أبوة وأمومة، بل إعادة تعريف لمعنى الوجود.

رحلة تربية طفلة صغيرة تعلمك كيف تتقبل المشاعر الدفينة المتناقضة التي تولدها هذه التجربة الشاقة. فبالرغم من أنها مؤلمة ولكن فهمها والتعبير عنها هو تحرير للنفس ونمو لها.

ثم يأتي التناقض الأعظم، كيف يمكن لدموع الأم، التي تنهمر من بكاء طفلتها، أن تكون في الوقت ذاته ينبوع حياة؟ في كل مرة تبكي طفلتها، تشعر وكأن قلبها يتمزق، وكأن كل صرخة صغيرة هي نداء نجدة ممتلئ برجاء صامت بأن تُفهم حاجتها ويُخفف ألمها. إنها دموع مختلطة؛ بين ألم رؤية صغيرتها تعاني، وعجزها عن فك شفرة بكائها الغامض. الأم هنا لا تبكي فقط من التعب الجسدي، بل من ذلك الثقل العاطفي الهائل الذي يربطها بهذا الكائن الصغير. كل دمعة تسقط من عينيها تحمل معها وجعاً، لكنه وجع مليء بالمعاني. إنه وجع الحب غير المشروط، وجع الشعور بأنها مستعدة لفعل المستحيل لتخفيف ألم صغيرتها.

وبينما تبدو دموعها كأنها علامة ضعف وانكسار، تنبض بداخلها طاقة غريبة، فتتحول الدموع التي بدت كأنها استسلام، إلى وسيلة لتجديد العهد مع القوة والحب. تدرك الأم أن هذه الدموع ليست فقط تعبيراً عن ألمها، بل هي ماء يسقي جذور أمومتها، يجعلها أكثر صلابة وقوة. ومن هذه اللحظات، التي تظن فيها أنها وصلت إلى نهايتها، تستيقظ بروح متجددة، تدرك أن حبها أكبر من التعب، وأن قدرتها على العطاء بلا حدود.

و مع مرور الأيام أدركنا أن تربية طفل جديد بحاجة إلى "قرية". العائلة، الأصدقاء، وحتى المجتمع المحيط يساهمون بطريقة أو بأخرى في دعم هذه الرحلة الشاقة. مشاركة الخبرات، تلقي الدعم النفسي والعملي، وحتى النصائح الصغيرة التي قد تبدو تافهة، يمكن أن تكون فارقة في هذه الرحلة. الأمهات والآباء الذين مروا بتجارب مشابهة يصبحون مرآة نستقي منها الحكمة، والجيران الذين يعرضون المساعدة يذكّروننا بأهمية الترابط الإنساني. إنها فرصة لتعزيز مفهوم التعاون الجماعي الذي يغذي جوهر الإنسانية ويجعل التحديات أكثر احتمالاً.

هذا الكائن الملائكي هو دعوة للتفكر في تناقضات الوجود. فكيف لهذا الكائن الذي يبدو ضعيفاً أن يكون بهذا التأثير الطاغي لكل من حوله؟ كيف يمكن لبكائه المزعج أن يحمل في طياته حكمة عميقة؟

وهكذا تستمر الرحلة، بين الإرهاق والفرح، بين الفوضى والجمال، تجد نفسك في حالة دائمة من الاكتشاف— لطفلتك، لذاتك، وللحياة.

هذا الكائن الصغير، يصبح مرآة تعكس أعمق جوانبك. تجد نفسك تكتشف عوالم جديدة من الحب والتجدد. حبٌ يُغيرك من الداخل، يختبر مبادئك، يعيد تشكيلك، ويجعلك ترى الحياة بعيون مختلفة. إنها تجربة تُعيد تعريف معنى الحب، معنى العطاء، ومعنى الوجود.

وفي النهاية، تُدرك أن هذه التجربة ليست مجرد دور تقوم به، بل هي رحلة تأمل ونمو، قصة تحوّل استثنائية.

 
 
 

Comentarios


انضم إلى سحابة نَبِلازِيز الآن

  • Instagram
  • TikTok
  • X
  • Snapchat
  • Youtube
bottom of page